محبة النبي - صلى الله عليه وسلم
صفحة 1 من اصل 1
محبة النبي - صلى الله عليه وسلم
لحمد لله الذي سهَّل لعباده المؤمنين إلى مرضاته سبيلاً، وأوضح لهم طريق الهداية، وجعلَ الرسولَ - صلى الله على الله عليه وسلم - عليها دليلاً واتخذهم عبيدًا له، فأقروا له بالعبودية، ولم يتخذوا من دونه وكيلاً، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيَّدهم بروح منه لمَّا رضوا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، تعالى وتقدَّس أن يكون له شبيهًا أومثيلاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وعبد ربَّه؛ حتى أتاه اليقين، وتبتل إليه تبتيلاً - صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به، وبالنور الذي أنزل معه، وما بدلوا تبديلاً.
أما بعد:
أيها المؤمنين، عباد الله، اتقوا الله - تعالى - فإنكم بالتقوى مكلَّفون، وأطيعوا الله والرسول لعلَّكم ترحمون، وعليكم بالصِّدق مع الله في الأقوال والأفعال والأحوال لعلكم تفلحون، وتهيَّؤوا للقدوم على الله، والوقوف بين يديه - سبحانه - فإنكم جميعًا إليه راجعون، وكونوا من أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقًّا الذين قال الله فيهم: ﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
عباد الله:
إن تعظيم الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله وتوقيره شعْبة عظيمة من شعَب الإيمان، وحق عظيم من حقوقه - صلى الله عليه وسلم - على أمَّته، وهوأمر واجب أمر الله به عباده في القرآن؛ قال الله - تعالى -: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ [الفتح: 9].
واللام في قوله لتؤمنوا بالله ورسوله لام الأمر، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - : "التعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كلِّ ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكلِّ ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كلِّ ما يخرجه عن حدِّ الوقار"، وقال ابن جرير الطبري - رحمه الله -: "فأما التوقير، فهوالتعظيم والإجلال والتفخيم"، وقال ابن كثير - رحمه الله -: "التوقير: هوالاحترام والإجلال والإعظام".
عباد الله:
إن من حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمَّته أن يُحترم ويُوقَّر، ويُكرَّم ويُجَل أكثر من إجلال الولد لوالده، والمرؤوس لرئيسه، والعبد لسيِّده، وأن تُقدَّم محبته - عليه الصلاة والسلام - على محبَّة الوالد والولد، والنفس والنفيس، وعلى محبة الناس أجمعين؛ ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يؤمن أحدُكم؛ حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده، والناس أجمعين))، وثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنَّه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا رسول الله، والله لأنت أحبُّ إليه من كل شيء، إلا من نفسي، فقال - صلى الله عليه وسلم - لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن يا عمر)).
عباد الله:
وإذا أردنا أن نقفَ على حقيقة هذه المحبَّة في أبهى صورها، وحقيقة هذا التوقير والتعظيم في أجمل هيْئَاته وحُللِه، فلننظر إلى تاريخ الصحابة المجيد، وسيرتهم الفذة؛ فقد حققوا أروع الصور وضربوا أحسن الأمثال في تحقيق هذه المحبة وتكميلها، ففدوه - صلى الله عليه وسلم - بالآباء والأُمهات، وعظموه في السلوك والتصرُّفات، وتأدبوا معه في الكلام والمحادثات، ولم يتقدموا بين يديه في شيء من الأقوال والمعاملات، وعزروه ووقَّروه ونصروه في جميع الأوقات، وكان إذا تحدث إليهم، كأنما على رؤوسهم الطير؛ لما هم عليه من سكينة وإخبات، وقد أوردت كتب الحديث والسِّيَر والتاريخ صورًا عديدة مُشرِقة من ذلك التعظيم والتوقير الذي كان عليه الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك ما جاء في صحيح البخاري في قصة عروة بن مسعود الثقفي عندما أوفده قومه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - للتفاوض معه، فقال في وصف أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما رجع إلى قومه، قال: "والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت "أي ما رأيت"، والله إن رأيت ملكًا قطُّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - محمَّدًا".
ومن ذلك أيضًا ما رواه ابن جرير الطبري في تفسير قوله - تعالى -: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8].
قال لما قال رأس المنافقين عبدالله بن أُبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ادعوا له عبدالله بن عبدالله بن أُبَي بن سلول - وكان من خيار الصحابة - (الابن)، فقال: ألا ترى ما يقول أبوك؟ قال: وما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: يقول لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فقال عبدالله صدق والله يا رسول الله، أنتَ والله الأعزُّ وهوالأذلُّ، أما والله قدمتَ المدينة يا رسول الله، وإنّ أهل يثرب ليعلمون ما بها أحدٌ أبَرّ مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه؛ يعني: (رأس أبيه)، لآتينهما به، فقال رسول الله: لاُ، فلما قدموا المدينة قام عبدالله بن عبدالله بن أُبي على باب المدينة بالسيف لأبيه، ثم قال: "أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنَّ الأعز منها الأذل، أما والله لتعرفنَّ العزة لك أولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لا يؤويك ظلُّه؛ أي: بيتك، ولا تأويه أبدًا إلا بإذن من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا للخزرج، ابني يمنعني بيتي، فقال: والله لا تؤويه أبدًا إلا بإذن منه، فاجتمع إليه رجال فكلموه، فقال: والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه، فقال: اذهبوا إليه، فقولوا له خَلِّه ومسكنه، فأتَوه، فقال أما إذ جاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فنعم"، وفي رواية أنه قال: "والله لا تنفلت؛ أي: (قال لوالده)، والله لا تنفلت؛ حتى تُقِرَّ أنَّك أنت الذليل، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزيز ففعل".
ومن ذلك - عباد الله - ما رواه مسلم في صحيحه عن عمروبن العاص - رضي الله عنه - قال: "ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجل في عينَي منه، وما كنت أطبق أن أملأ عيني منه إجلالاً له - صلى الله عليه وسلم - ولوسُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه - صلى الله عليه وسلم"، وفي المسند عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل، فصليتُ خلفَه، فأخذ بيدي فجرني فجعلني حذاءه، فلمَّا أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم على صلاته، خنست؛ أي: تأخَّرتُ قليلاً، فصلَّى، ثم انصرف، ثم لما انصرف، قال لي: ((ما شأني أجعلك حذائي، فتخنس، فقلت: يا رسول الله، أوينبغي لأحد أن يصلي حذاءك؛ أي: إلى جنبك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله، قال فأعجبته))، فدعا الله لي أن يزيدني علمًا وفَهْمًا، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال لما نزلت هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].
جلس ثابت ين قيس بن شمَّاس - رضي الله عنه - في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ، فقال: يا أبا عمرو، ما شأن ثابت أَشْتَكَى؟ فقال سعد: إنه لجاري، وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ثابت: أُنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا؛ (كان من طبيعته - رضي الله عنه - أنه جَهْوَرِي الصوت)، قال: ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بل هومن أهل الجنة))، فكنَّا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة.
ومن القَصص العجيبة في ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة أن صفوان بن أمية أخرج زيد بن الدّثنة - رضي الله عنه - أخرجه إلى التنعيم من الحرم؛ ليقتله وكان قد أسره نفر من عضل والقارة، ثم باعوه فاشتراه منهم، وأراد قتله بأبيه أُمَيَّة بن خلف، واجتمع رهط من قريش؛ فيهم أبوسفيان بن حرب، فقال: أبوسفيان حينما قُدِّم للقتل؛ (أي حينما قدم زيد ليقتل): أنشدك الله يا زيد أتحبُّ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عندنا الآن في مكانك فنضرب عنقه وأنك في أهلك؛ (أي تسلم من القتل)، قال: والله ما أحب أن محمدًا في مكانه الذي هوفيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي، قال: يقول أبوسفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحبّ أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - محمدًا.
عباد الله:
فهذه نماذج يسيرة وأمثلة قليلة من روائع قصص الصحابة - رضي الله عنهم - وما كانوا عليه من احترام وتوقير وتعظيم للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وكيف لا يكونون كذلك وهو- صلوات الله وسلامه عليه - إمامهم وسيدهم، وقدوتهم وقائدهم إلى الخير، به أنقذهم الله من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، وكان هو- صلوات الله وسلامه عليه - حريصًا عليهم رحيمًا بهم، وكان أولى بهم من أنفسهم؛ ففدوه بالآباء والأمهات، وأطاعوا أمره، واجتنبوا نَهْيَه، وعزروه ونصروه، وآمنوا بالنور الذي أنزل معه، وجاهدوا في الله حقَّ جهاده؛ حتى أتاهم اليقين.
عباد الله:
والواجب على من جاء بعدهم أن يترسم خُطاهم، وأن يسير على نهجهم، وأن يقتفي آثارهم، وأن يبتعد كل البعد عن كل ما أحدثه الناس من صور خاطئة ومفاهيم غالطة في التعظيم والمحبة مما لم يكن عليه الصحابة الكرام؛ فقد كانوا - إي والله - أبر الناس قلوبًا وأصدقهم ألسنة، وأحسنهم محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولن يأتي بعدهم أصدق محبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم ونسأل الله - جل وعلا - أن يلحقنا وإياكم بهم، وأن يسلك بنا وبكم طريقهم، وأن يجنبنا الأمور المحدثة والبدع الزائفة، وأن يسلك بنا طريق الخير، وأن يهدينا سبيل الرشاد، وأن يجعلنا من عباده المتقين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].
الخطبة الثانية
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى - ومراقبته في السر والعلانية، ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيم المدينة النبوية المنورة التي هي مهبط الإيمان ودار المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ومهاجره - صلى الله عليه وسلم - فقد اختارها الله - جل وعلا - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - اختارها له قرارًا، وجعل أهلها شيعًا له وأنصارًا، وهي المدينة التي انتشر منها دين الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل مشارق الأرض ومغاربها، وهي التي ورد في فضلها وتعظيم شأنها وتحريمها وبيان رفعة قدرها الكثير من الأحاديث الثابتة الصحيحة، ومن ذلك حديث عبدالله بن زيد بن عاصم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن إبراهيم حرم مكة، ودعا لأهلها، وإني حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومُدِّها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة))؛ متفق عليه.
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أحرم ما بين لا بتي المدينة؛ أن يقطع عظاهها، أويقتل صيدها))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها، إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها، إلا كنت شفيعًا أو شهيدًا له يوم القيامة))، وأسأل الله - جل وعلا - أن يجعله شهيدًا وشفيعًا لنا، ولكم يوم القيامة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المدينة حرم، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلاً ولا صرفًا))؛ أي: لا يقبل منه فريضة ولا نفلاً.
وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيَّة إلى جُحْرها))؛ متفق عليه.
وعن سعيد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يكيد أهلَ المدينة أحدٌ، إلا انْماعَ كما ينماع الملح في الماء))؛ متفق عليه.
عباد الله:
وتعظيم المدينة هو تعظيم حَرمِها، ومعرفة قدرها، ومراعاة حقِّها، ومعرفة آداب ساكنها وزائرها، وهذا - عباد الله - أمرٌ واجبٌ على من سكن المدينة، أو دخل فيها مع ما يجب على ساكنها من مراعاة حقّ المجاورة، وحُسن التأدب فيها، وذلك لما لها من المنزلة والمكانة عند الله - جلّ وعلا - وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:
وحَرِي من أكرمه الله بالإقامة في هذا البلد المبارك أن يتزود فيها من الأعمال الصالحة التي تنفع الإنسان بعد الموت، وأن يحذر الإنسان من الوقوع فيها فيما يسخط الله - عز وجل - من البدع المحرَّمة والمعاصي والآثام، وأن يعرف لهذا البلد المبارك حُرْمَته ومكانته وقدره.
ونسأل الله - جل وعلا - بأسمائه الحُسنى، وصفاته العُلى كما أكرمنا بسكنى المدينة أن يكرمنا بالتأدُّب بآداب هذا البلد الكريم، وأن يعيننا وإياكم على طاعته - سبحانه - واتباع سُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وأن يصلح لنا ولكم شأننا كله، وأن يهدينا جميعًا إليه صراطًا مستقيمًا.
وصلوا وسلموا - رحمكم الله - على محمد بن عبدالله كما أمركم الله بذلك في كتابه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صلّى عليَّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا))، وجاء عنه - عليه الصلاة والسلام - الحثُّ من الإكثار من الصلاة والسلام عليه في ليلة الجمعة ويومها؛ فأكثروا في هذا اليوم المبارك من الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهدين؛ أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي السبطين عليّ.
وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين، اللهم آمنِّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا ربّ العالمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّة نبيِّك محمد - صلى الله عليه وسلم - اللهم انصر من نصر الدين، واخْذل من خذل الدين يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه على البر والتقوى، وسدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والعافية يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - اجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين، اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه، وما لم نعلم.
اللهم إنا نسألك الجنة، وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار، وما قرَّب إليها من قول أو عمل، وأن تجعل كلَّ قضاء قضيته لنا خيرًا.
اللهم إنا نسألك ونتوجّه إليك بمحبتنا لنبيِّك - صلى الله عليه وسلم - أن تجعله شهيدًا وشفيعًا لنا يوم نلقاك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنَا عذاب النار.
أما بعد:
أيها المؤمنين، عباد الله، اتقوا الله - تعالى - فإنكم بالتقوى مكلَّفون، وأطيعوا الله والرسول لعلَّكم ترحمون، وعليكم بالصِّدق مع الله في الأقوال والأفعال والأحوال لعلكم تفلحون، وتهيَّؤوا للقدوم على الله، والوقوف بين يديه - سبحانه - فإنكم جميعًا إليه راجعون، وكونوا من أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقًّا الذين قال الله فيهم: ﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
عباد الله:
إن تعظيم الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله وتوقيره شعْبة عظيمة من شعَب الإيمان، وحق عظيم من حقوقه - صلى الله عليه وسلم - على أمَّته، وهوأمر واجب أمر الله به عباده في القرآن؛ قال الله - تعالى -: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ [الفتح: 9].
واللام في قوله لتؤمنوا بالله ورسوله لام الأمر، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - : "التعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كلِّ ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكلِّ ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كلِّ ما يخرجه عن حدِّ الوقار"، وقال ابن جرير الطبري - رحمه الله -: "فأما التوقير، فهوالتعظيم والإجلال والتفخيم"، وقال ابن كثير - رحمه الله -: "التوقير: هوالاحترام والإجلال والإعظام".
عباد الله:
إن من حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمَّته أن يُحترم ويُوقَّر، ويُكرَّم ويُجَل أكثر من إجلال الولد لوالده، والمرؤوس لرئيسه، والعبد لسيِّده، وأن تُقدَّم محبته - عليه الصلاة والسلام - على محبَّة الوالد والولد، والنفس والنفيس، وعلى محبة الناس أجمعين؛ ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يؤمن أحدُكم؛ حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده، والناس أجمعين))، وثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنَّه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا رسول الله، والله لأنت أحبُّ إليه من كل شيء، إلا من نفسي، فقال - صلى الله عليه وسلم - لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن يا عمر)).
عباد الله:
وإذا أردنا أن نقفَ على حقيقة هذه المحبَّة في أبهى صورها، وحقيقة هذا التوقير والتعظيم في أجمل هيْئَاته وحُللِه، فلننظر إلى تاريخ الصحابة المجيد، وسيرتهم الفذة؛ فقد حققوا أروع الصور وضربوا أحسن الأمثال في تحقيق هذه المحبة وتكميلها، ففدوه - صلى الله عليه وسلم - بالآباء والأُمهات، وعظموه في السلوك والتصرُّفات، وتأدبوا معه في الكلام والمحادثات، ولم يتقدموا بين يديه في شيء من الأقوال والمعاملات، وعزروه ووقَّروه ونصروه في جميع الأوقات، وكان إذا تحدث إليهم، كأنما على رؤوسهم الطير؛ لما هم عليه من سكينة وإخبات، وقد أوردت كتب الحديث والسِّيَر والتاريخ صورًا عديدة مُشرِقة من ذلك التعظيم والتوقير الذي كان عليه الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك ما جاء في صحيح البخاري في قصة عروة بن مسعود الثقفي عندما أوفده قومه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - للتفاوض معه، فقال في وصف أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما رجع إلى قومه، قال: "والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت "أي ما رأيت"، والله إن رأيت ملكًا قطُّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - محمَّدًا".
ومن ذلك أيضًا ما رواه ابن جرير الطبري في تفسير قوله - تعالى -: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8].
قال لما قال رأس المنافقين عبدالله بن أُبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ادعوا له عبدالله بن عبدالله بن أُبَي بن سلول - وكان من خيار الصحابة - (الابن)، فقال: ألا ترى ما يقول أبوك؟ قال: وما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: يقول لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فقال عبدالله صدق والله يا رسول الله، أنتَ والله الأعزُّ وهوالأذلُّ، أما والله قدمتَ المدينة يا رسول الله، وإنّ أهل يثرب ليعلمون ما بها أحدٌ أبَرّ مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه؛ يعني: (رأس أبيه)، لآتينهما به، فقال رسول الله: لاُ، فلما قدموا المدينة قام عبدالله بن عبدالله بن أُبي على باب المدينة بالسيف لأبيه، ثم قال: "أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنَّ الأعز منها الأذل، أما والله لتعرفنَّ العزة لك أولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لا يؤويك ظلُّه؛ أي: بيتك، ولا تأويه أبدًا إلا بإذن من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا للخزرج، ابني يمنعني بيتي، فقال: والله لا تؤويه أبدًا إلا بإذن منه، فاجتمع إليه رجال فكلموه، فقال: والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه، فقال: اذهبوا إليه، فقولوا له خَلِّه ومسكنه، فأتَوه، فقال أما إذ جاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فنعم"، وفي رواية أنه قال: "والله لا تنفلت؛ أي: (قال لوالده)، والله لا تنفلت؛ حتى تُقِرَّ أنَّك أنت الذليل، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزيز ففعل".
ومن ذلك - عباد الله - ما رواه مسلم في صحيحه عن عمروبن العاص - رضي الله عنه - قال: "ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجل في عينَي منه، وما كنت أطبق أن أملأ عيني منه إجلالاً له - صلى الله عليه وسلم - ولوسُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه - صلى الله عليه وسلم"، وفي المسند عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل، فصليتُ خلفَه، فأخذ بيدي فجرني فجعلني حذاءه، فلمَّا أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم على صلاته، خنست؛ أي: تأخَّرتُ قليلاً، فصلَّى، ثم انصرف، ثم لما انصرف، قال لي: ((ما شأني أجعلك حذائي، فتخنس، فقلت: يا رسول الله، أوينبغي لأحد أن يصلي حذاءك؛ أي: إلى جنبك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله، قال فأعجبته))، فدعا الله لي أن يزيدني علمًا وفَهْمًا، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال لما نزلت هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].
جلس ثابت ين قيس بن شمَّاس - رضي الله عنه - في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ، فقال: يا أبا عمرو، ما شأن ثابت أَشْتَكَى؟ فقال سعد: إنه لجاري، وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ثابت: أُنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا؛ (كان من طبيعته - رضي الله عنه - أنه جَهْوَرِي الصوت)، قال: ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بل هومن أهل الجنة))، فكنَّا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة.
ومن القَصص العجيبة في ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة أن صفوان بن أمية أخرج زيد بن الدّثنة - رضي الله عنه - أخرجه إلى التنعيم من الحرم؛ ليقتله وكان قد أسره نفر من عضل والقارة، ثم باعوه فاشتراه منهم، وأراد قتله بأبيه أُمَيَّة بن خلف، واجتمع رهط من قريش؛ فيهم أبوسفيان بن حرب، فقال: أبوسفيان حينما قُدِّم للقتل؛ (أي حينما قدم زيد ليقتل): أنشدك الله يا زيد أتحبُّ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عندنا الآن في مكانك فنضرب عنقه وأنك في أهلك؛ (أي تسلم من القتل)، قال: والله ما أحب أن محمدًا في مكانه الذي هوفيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي، قال: يقول أبوسفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحبّ أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - محمدًا.
عباد الله:
فهذه نماذج يسيرة وأمثلة قليلة من روائع قصص الصحابة - رضي الله عنهم - وما كانوا عليه من احترام وتوقير وتعظيم للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وكيف لا يكونون كذلك وهو- صلوات الله وسلامه عليه - إمامهم وسيدهم، وقدوتهم وقائدهم إلى الخير، به أنقذهم الله من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، وكان هو- صلوات الله وسلامه عليه - حريصًا عليهم رحيمًا بهم، وكان أولى بهم من أنفسهم؛ ففدوه بالآباء والأمهات، وأطاعوا أمره، واجتنبوا نَهْيَه، وعزروه ونصروه، وآمنوا بالنور الذي أنزل معه، وجاهدوا في الله حقَّ جهاده؛ حتى أتاهم اليقين.
عباد الله:
والواجب على من جاء بعدهم أن يترسم خُطاهم، وأن يسير على نهجهم، وأن يقتفي آثارهم، وأن يبتعد كل البعد عن كل ما أحدثه الناس من صور خاطئة ومفاهيم غالطة في التعظيم والمحبة مما لم يكن عليه الصحابة الكرام؛ فقد كانوا - إي والله - أبر الناس قلوبًا وأصدقهم ألسنة، وأحسنهم محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولن يأتي بعدهم أصدق محبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم ونسأل الله - جل وعلا - أن يلحقنا وإياكم بهم، وأن يسلك بنا وبكم طريقهم، وأن يجنبنا الأمور المحدثة والبدع الزائفة، وأن يسلك بنا طريق الخير، وأن يهدينا سبيل الرشاد، وأن يجعلنا من عباده المتقين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].
الخطبة الثانية
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى - ومراقبته في السر والعلانية، ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيم المدينة النبوية المنورة التي هي مهبط الإيمان ودار المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ومهاجره - صلى الله عليه وسلم - فقد اختارها الله - جل وعلا - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - اختارها له قرارًا، وجعل أهلها شيعًا له وأنصارًا، وهي المدينة التي انتشر منها دين الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل مشارق الأرض ومغاربها، وهي التي ورد في فضلها وتعظيم شأنها وتحريمها وبيان رفعة قدرها الكثير من الأحاديث الثابتة الصحيحة، ومن ذلك حديث عبدالله بن زيد بن عاصم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن إبراهيم حرم مكة، ودعا لأهلها، وإني حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومُدِّها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة))؛ متفق عليه.
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أحرم ما بين لا بتي المدينة؛ أن يقطع عظاهها، أويقتل صيدها))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها، إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها، إلا كنت شفيعًا أو شهيدًا له يوم القيامة))، وأسأل الله - جل وعلا - أن يجعله شهيدًا وشفيعًا لنا، ولكم يوم القيامة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المدينة حرم، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلاً ولا صرفًا))؛ أي: لا يقبل منه فريضة ولا نفلاً.
وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيَّة إلى جُحْرها))؛ متفق عليه.
وعن سعيد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يكيد أهلَ المدينة أحدٌ، إلا انْماعَ كما ينماع الملح في الماء))؛ متفق عليه.
عباد الله:
وتعظيم المدينة هو تعظيم حَرمِها، ومعرفة قدرها، ومراعاة حقِّها، ومعرفة آداب ساكنها وزائرها، وهذا - عباد الله - أمرٌ واجبٌ على من سكن المدينة، أو دخل فيها مع ما يجب على ساكنها من مراعاة حقّ المجاورة، وحُسن التأدب فيها، وذلك لما لها من المنزلة والمكانة عند الله - جلّ وعلا - وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم.
عباد الله:
وحَرِي من أكرمه الله بالإقامة في هذا البلد المبارك أن يتزود فيها من الأعمال الصالحة التي تنفع الإنسان بعد الموت، وأن يحذر الإنسان من الوقوع فيها فيما يسخط الله - عز وجل - من البدع المحرَّمة والمعاصي والآثام، وأن يعرف لهذا البلد المبارك حُرْمَته ومكانته وقدره.
ونسأل الله - جل وعلا - بأسمائه الحُسنى، وصفاته العُلى كما أكرمنا بسكنى المدينة أن يكرمنا بالتأدُّب بآداب هذا البلد الكريم، وأن يعيننا وإياكم على طاعته - سبحانه - واتباع سُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وأن يصلح لنا ولكم شأننا كله، وأن يهدينا جميعًا إليه صراطًا مستقيمًا.
وصلوا وسلموا - رحمكم الله - على محمد بن عبدالله كما أمركم الله بذلك في كتابه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صلّى عليَّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا))، وجاء عنه - عليه الصلاة والسلام - الحثُّ من الإكثار من الصلاة والسلام عليه في ليلة الجمعة ويومها؛ فأكثروا في هذا اليوم المبارك من الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهدين؛ أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي السبطين عليّ.
وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين، اللهم آمنِّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا ربّ العالمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّة نبيِّك محمد - صلى الله عليه وسلم - اللهم انصر من نصر الدين، واخْذل من خذل الدين يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه على البر والتقوى، وسدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والعافية يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - اجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين، اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه، وما لم نعلم.
اللهم إنا نسألك الجنة، وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار، وما قرَّب إليها من قول أو عمل، وأن تجعل كلَّ قضاء قضيته لنا خيرًا.
اللهم إنا نسألك ونتوجّه إليك بمحبتنا لنبيِّك - صلى الله عليه وسلم - أن تجعله شهيدًا وشفيعًا لنا يوم نلقاك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنَا عذاب النار.
جمال خالد يوسف- عضو ذهبي
- عدد المساهمات : 257
تاريخ التسجيل : 17/06/2012
مواضيع مماثلة
» النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
» وصف النبي الكريم صل الله علية وسلم
» نسبه - صلى الله عليه وسلم
» من هو سيدنا محمد ((صلي الله عليه وسلم ))
» سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
» وصف النبي الكريم صل الله علية وسلم
» نسبه - صلى الله عليه وسلم
» من هو سيدنا محمد ((صلي الله عليه وسلم ))
» سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس يوليو 30, 2015 9:16 am من طرف ameralhosn
» حزيفة العطايا في ذمة الله
الجمعة سبتمبر 12, 2014 4:17 pm من طرف الصديق عبدالرحمن طه
» بيت شعر اعجبني
السبت أغسطس 09, 2014 6:29 am من طرف الصديق عبدالرحمن طه
» صباح النور عليكم يا زهور **************** كلمات سيد عيد العزيز *********
السبت يوليو 26, 2014 11:01 pm من طرف sanshairo
» في رونق الصبح البديع
السبت يوليو 26, 2014 10:54 pm من طرف sanshairo
» نور الحبيب احمد الي الرفيق الاعلي
الإثنين يونيو 23, 2014 3:13 pm من طرف الصديق عبدالرحمن طه
» قسم الله حسن في ذمه الله
السبت مايو 31, 2014 7:03 am من طرف عبدالمحمود الصديق
» قريتي رسمتي الامل في دواخلي والابتسامه علي شفتي
السبت مايو 24, 2014 6:41 am من طرف عبدالمحمود الصديق
» ما سر الغياب المتواصل
السبت مايو 24, 2014 5:49 am من طرف الصديق عبدالرحمن طه